عصر التكيفإن من الشعر

حكمة

ما أروع الشعر حين يوظف في الدعوة إلى الله تعالى ونشر الخير والفضيلة ويربطه بمكارم الأخلاق!

أ.د. عبدالكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة

الشِعرُ موهبةٌ فكرية يتميز بها من أوتيها، ويستطيع من خلاله التأثير في نفوس قارئيه وسامعيه. وللشعر مكانته الراقية على مر العصور، وتوالي الأزمان. فقد كانت العرب تعقد له الاجتماعات المتتابعة في أسواقها، وتتبارى في إظهار جديده في منتدياتها. وقد حفظت كتب الأدب آلاف القصائد المميزة، التي حوت الكثير من الحِكَم والفضائل والمكارم، ولا زالت ترددها ألسنة المعجبين بها إلى يومنا هذا.
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن من الشعر حكمة»، ومعناه: أن من الشعر كلامًا نافعًا حكيمًا صائبًا يمنع عن الجهل والسفه، فما كان في الشعر والرجز من ذِكرٍ لله تعالى، وتعظيمٍ له ووحدانيته، وإيثارِ طاعته والاستسلام له، فهو حسن مُرَغبٌ فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبًا أوغشًا أو مفاخرة أو تدليسًا فهو مذموم.
ولما نزل قوله تعالى: }وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{ (الشعراء 224)، جاء عبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، رضي الله عنهم، وهم يبكون، وقالوا: يا رسول الله: لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، أهَلَكْنَا؟، فأنزل الله تعالى: }إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون{ (الشعراء 227).
ومما يوضح إباحة الشعر إذا خلا من الكلام الفاحش، والقول الساقط، والغزل المحرم، والكذب والافتراء، ما رواه عمرو بن الشريد عن أبيه، قال: ردفت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومًا فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟»، قلت: نعم، قال: (هيه)، فأنشدته بيتًا، فقال:«هيه»، ثم أنشدته بيتًا، فقال:«هيه»، حتى أنشدته مئة بيت، رواه الإمام مسلم في صحيحه.
ففي هذا الحديث دليل على جواز حفظ الأشعار، والاعتناء بها، وإنما المكروه أن يغلب الاشتغال بها على الإنسان، ويُكثر منها كثرة تصده عما هو أهم منها، أو تفضي به إلى تعاطي أحوال مُجّان الشعراء وسخفائهم. فإن الغالب من أحوال من انصرف إلى الشعر بكليته وأكثر منه، أن يكون كذلك. وأما حفظ فصيح الشعر وجيده، المتضمن للحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا، والاستشهاد به في المناسبات والإرشاد والتوجيه فهذا جائز، بل ربما يلحق ما كان منه حِكَمًا بالمندوب إليه، إذا تضمن ذكر الله تعالى، أو حمده، أو الثناء عليه، أو ذكر رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو الصلاة عليه، أو مدحه، أو الذب عنه، أو ذكر أصحابه أو مدحهم، رضي الله تعالى عنهم، أو ذكر المتقين وصفاتهم، وأعمالهم، أو كان في الوعظ أو التحذير من المعاصي، أو الحث على الطاعات ومكارم الأخلاق, والدعوة إلى ترسيخ القيم السامية والآداب الفاضلة.
روى أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما دخل مكة في عمرة القضاء كان عبدالله بن رواحة، رضي الله عنه، يمشي بين يديه ويقول:

يا رب إني مؤمن بقِيله
فقال عمر، رضي الله عنه: يا ابن رواحة، أتقول الشعر بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «مه يا عمر، لهذا أشد عليهم من وقع النبل» رواه ابن حبان في صحيحه.
وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل، وكاد أمية بن الصلت أن يسلم» رواه البخاري ومسلم.
ما أروع الشعر حين يوظف في الدعوة إلى الله تعالى، ونشر الخير والفضيلة، والتحذير من الشر والرذيلة، والدفاع عن الإسلام، والذب عن سنة المصطفى الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أو في مدحه، صلى الله عليه وسلم، والثناء عليه، وذكر سيرته العطرة، وتبليغه شريعة الله وبيانها، وهداية البشر بسببه، وإخراج الله تعالى للبشرية من الظلمات إلى النور!
فمن ذلك قصيدة كعب بن زهير، رضي الله عنه، التي أنشدها بين يدي المصطفى، صلى الله عليه وسلم، معتذرًا منه، ومادحًا لشخصه الكريم، ومنها قوله:

ومن ذلك قول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، في رثاء النبي، صلى الله عليه وسلم:

ليس هناك أرفع وأفضل من مدح صفوة الخلق عليه الصلاة والسلام، لكنّ ذلك يجب أن يكون في حدود توجيهاته، صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا بمعرفة حقوقه علينا، وتوقيره ومحبته، وإجلاله، وألا نرفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبدالله ورسوله» رواه البخاري.
وما أجمل قصيدتي أمير الشعراء أحمد شوقي في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، لو سلم من الغلو في حقه، صلى الله عليه وسلم، وإطرائه بما لا يرضاه الشرع! فمن الأبيات الرائعة السليمة من التجاوز، في همزيته:

وكم أثارت الأشعار القيمة، والقصائد الصادقة، النابعة من قلب شاعر عرف كيف يوظف شعره في خدمة الدعوة الإسلامية، كم أثارت من نفوس كانت غارقة في الضلالة، موحلة في الغفلة، فأعادتها إلى فطرتها، وأفاقتها من نومها، وسباتها. روى البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الخندق ينقل معنا التراب على رأسه حتى ما أرى جلدة بطنة مما غطاه التراب، وهو يقول:

وبالجملة فإن الشعرَ حسنُه حسن، وقبيحُه قبيح، وما أجمله حين يغرس في النفس الإنسانية حبَّ الخير، ويحفزها لعبادة خالقها، ويربطها بمكارم الأخلاق، ويبعث فيها الارتباط التام بمحاسن الأقوال، ومحامد الأفعال، ويُرسّخُ في القلوب الآدابَ الحميدة, والخصالَ المجيدة!